,

هوس الموضة السريعة: هل نرتدي حقًا ما نُحب أم ما فُرض علينا؟!

تقرير: جهاد الجمل.

هوس الموضة السريعة.. هل نرتدي حقًا ما نُحب أم ما فُرض علينا؟! في عالم أصبحت تغزوه الرأسمالية من كل حدبِ وصوب، وسيطرت على عقول ساكنيه النزعة الاستهلاكية الجشعة بتوجيه مقصود من رواد الصناعات للمنافذ الإعلامية والإلكترونية المختلفة بغية غرس الثقافة الاستهلاكية شديدة التنافسية في الشعوب، شغلت الموضة السريعة حيزًا ضخمًا من أسواق الموضة العصرية.

ما هي الموضة السريعة؟ 

تُشير “الموضة السريعة” إلى تركيز جهود الصناعة على الكمّ لا الكيف، أي على أكبر قدر ممكن من الإنتاج في أسرع وقت وبأقل تكلفة على حساب الجودة مجاراة للسباق التنافسيّ الذي لا ينتظر ولا يرحم، والذي اشتدت سرعته بسبب المعايير المرتفعة للموضة والصورة الكرتونية المثالية التي فرضها الإعلام على المجتمع مما أدى إلى وضع المستهلكين تحت ضغط مستمر للظهور بأكثر الصيحات حداثة ورواجًا بأي شكل للحفاظ على صورتهم الاجتماعية في مجتمع سيطر على معاييره الهوس بالصورة.

التكنولوجيا والموضة السريعة

وكما لعبت التكنولوجيا دورًا جوهريًا في فرض اتجاهات جديدة على كل ما يتعلق بحياة البشر اليوم، لم تسلم معايير الأناقة أيضًا من بصمتها، حيث أصبحت منصات التواصل الاجتماعي وخاصة منصة “إنستجرام” اليوم مجالًا مهنيًا للعديد من صنّاع المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي خاصة المختصين بالأزياء.

فتتلخص مهمة هؤلاء المؤثرين في الترويج للعلامات التجارية لدى متابعي حساباتهم الذين قد يُقدروا بالملايين، ومع زيادة عدد هؤلاء المؤثرين ترسخ لدى مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي -والتي لم يعد هناك مفرّ من استخدامها- اتجاه للهوس بالأزياء وملاحقة كل ما يُفرض على الساحة أول بأول، وغرس صورة زائفة وشديدة المثالية للموضة تفوق القدرة المالية والمعايير الاجتماعية لأغلب المتابعين في واقع الأمر.

مما يقدم لصنّاع الموضة السريعة النتيجة التي يريدونها على طبق من ذهب بعدما أصبحت النظرة المجتمعية لا تعطي الاعتبار سوى للمعايير الشكلية التي فرضتها المحتويات التلفزيونية والإلكترونية التي ما تلبث حتى توجّه الموضة لصيحة جديدة مع حلول كل صباح لكي تفتح شاشة الهاتف الصغيرة تلك الأبواب على مصراعيها للموضة السريعة. 

المخاطرة بالعمالة البشرية 

تنطوي ظروف العمل بقطاع صناعة الموضة السريعة على العديد من المخاطر التي تترك تأثيرات سلبية على صحة العمالة البشرية المُهددة لحياتهم، إلى جانب الأجور المنخفضة غير المتوافقة مع الجهد المبذول، يتعرض العمّال في قطاع الموضة السريعة إلى مخاطر عديدة بسبب عدم استيفاء المعايير اللازمة للأمن والسلامة مثل أمراض الرئة كالالتهاب والربو الناتجة عن الانبعاثات الكيماوية الصادرة بسبب تصنيع النسيج، كما أنه بالإضافة إلى الإرهاق الذي تسببه الآلات للعمّال، قد لا يتوفر تأمين صحيّ جيد لمساعدة العمّال على التعافي من إصابات العمل وقد يضطرون إلى التأقلم مع الإصابات في ظروف لا يمكن وصفها سوى بأنها لا آدمية.

فحسب ما ذكرته منظمة “بابليك آي” في سويسرا العام الماضي، قد تفوق ساعات العمل التي يلتزم بها عمال مصانع “شي إن” ٧٥ ساعة أسبوعيًا في انتهاك واضح للقانون الصيني، كما لا يحصل موظفو شركة “بوهو” البريطانية في باكستان إلا على فتات من الرواتب لا يتلائم مع الظروف الشاقة التي يتعرضون لها في تلك المهنة، وغيرها من الانتهاكات الواضحة التي ارتكبتها الشركات في حق العمالة بدافع الجشع.  

الجودة المنخفضة

تعتمد فلسفة الموضة السريعة على الكمّ الإنتاجي الضخم وتعتبره هدفًا مركزيًا دون الالتفات إلى الجودة. فغالبًا ما تكون جودة الأقمشة المستخدمة في التصنيع منخفضة ولا تدوم صلاحيتها للاستعمال كثيرًا، لكنها للأسف تنجح دائمًا في جذب المشترين الذين يعيرون الاهتمام لسباق استعراض الأزياء الجديدة الذي لا حدود له.

الموضة السريعة وتأثيرها على البيئة والمجتمع

الأخطار البيئية 

لا تُعد الموضة السريعة خطرًا مباشرًا على العمالة البشرية فقط، بل على النظام البيئي والمناخ بصورة عامة، حيث ينتج عن تصنيع النسيج والفسكوز المُصنّع من ألياف الخشب وغيرها من الأقمشة الرخيصة انبعاثات كيميائية ضارّة للهواء وللمقيمين في المناطق المحيطة بالمصانع، كما أنّ صناعة الموضة السريعة تستهلك قدرًا ضخمًا من المياه والتي يطالها التلوث بفعل المواد الكيميائية والتي تنتشر بسهولة ويصعب معالجتها.

كما أنّ استخدام الألياف البلاستيكية الضارة مثل البوليستر -أملًا في تخفيض السعر قدر الإمكان- يؤثر سلبيًا بصورة مباشرة على الموارد الغذائية البحرية بسبب المواد الكيميائية السامة التي تنتشر في الموائل البحرية. 

خرافة “الصيحة الجديدة”

الموضة السريعة وتأثيرها على البيئة والمجتمع

تعتمد شركات الأزياء على غرس فكرة زائفة حول “القطعة الجديدة” وكأنها لم تخطر على بال مصمم من قبل ولم يحظ أحد بارتدائها يومًا، وهو ما ينافي حقيقة إعادة إحياء صيحات الموضة القديمة كل فترة من الزمن مع إضافة بعض اللمسات لمحاولة إضفاء الطابع الإبداعي عليها.

تمرّ دورة الازياء الجديدة بعدة مراحل، تُعرض للسوق في زهوتها وتسرق الأنظار، ثم تنتشر وتسود، ثم بعد فترة تُصبح مستهلكة وعادية بالنسبة للجمهور الذي يُسيطر عليه هوس الاستعراض والذي يخدم الأهداف التجارية للشركات ويدفعها لاكتشاف “الجديد” بأي شكل. لكن الجديد في الحقيقة لا يكون جديدًا، بل “مثيرًا للجدل” في هذه المرحلة بعد ما عفى على استخدامه الزمن لكونه صيحة كانت شائعة عند جيل جدّات الجيل الحاليّ.

إذن، طالما أن فكرة إعادة تدوير “الصيحات” مقبولة ومستحبة لدى الجمهور، فمن الغريب أن تُقدم لهم فكرة إعادة تدوير الملابس بصورة سلبية عن طريق الترويج المستمر لمجاراة الصورة العالمية بحذافيرها طيلة الوقت، لذا، آن أوان أن تنكشف اللعبة لجماهير الموضة السريعة المتعطشة دائمًا للمزيد، لا تريد الشركات إلا شيئًا واحدًا وهو استنزافكم في سباق طويل لا ينتهي، عن طريق التحكم في تصوراتكم ومعاييركم في تقييم الأزياء، فيستطيعون في يوم وليلة فرض صيحة جديدة قديمة عليكم كانت حتى المساء الماضي قطعة قديمة لا تتمكنون من ارتدائها لأنها قد أصبحت من مقتنيات العصر الماضي.

لا يُهم ما سيرتديه الجميع غدًا من نسخ تُفقدهم تفردهم، لأن خزانتك المتنوعة هي من تجعل منك أنت. 

الموضة المستدامة صديقة البيئة 

ودعمًا للموضة المستدامة للحدّ من الآثار الضارة للموضة السريعة على الإنسان والبيئة، يُنصح ببعض السلوكيات الهادفة لترشيد الاستهلاك ودعم البيئة مثل التقليل من اقتناء قطع الموضة السريعة قدر الإمكان واستبدال القطع المصنّعة من الألياف الطبيعية مثل القطن بها، كما أنّ علينا تعزيز الوعي المجتمعي بعدم الانسياق للاتجاهات التي تغرسها مواقع التواصل الاجتماعي في رؤيتنا للأناقة وتحصر اختياراتنا في إطارها. على سبيل المثال، لا مانع من تكرار الملابس أكثر من مرّة، ولا يجب الانقياد وراء الصيحات الجديدة على طول الخط دون مراعاة ما إن كانت تناسب معاييرنا وطبيعة أجسامنا أم لا، لأنّ سر أناقة الملابس الحقيقي هو الشخصية المتفردة لمرتديها. لذا، دعنا نتحرر من قيود  الموضة السريعة وقبضتها على اختياراتنا ولنُحرر أذواقنا من أهدافها التجارية الضارة للبيئة والصحة العامة، وقبلهم لنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *